مُقدِّمة ٌ : الشَّاعرُ والأديبُ والصحفي الكبير الأستاذ ” كمال إبراهيم ” من سكان ِ قرية ” المغار ” – الجليل – حاصلٌ على لقبِ أل ( b.a ) من الجامعةِ العبريَّة – القدس – في موضوعيّ اللغة العربيَّة وآدابها واللغة العبريَّة عام 1974 . عملَ في الصَّحافةِ المسموعةِ كمراسل ٍ للإذاعةِ حتى سفرهِ للولاياتِ المتحدة حيثُ التحقَ بجامعةِ كليفورنيا – لوس أنجلس – وتخصَّصَ في دراسةِ اللغةِ العربيَّة وآدابها وتخرَّجَ منها بلقبِ الماجستير ( m.a ) عام 1982 . بعدَ عودتِهِ إلى البلاد مارسَ مهنة َ التدريس … عملَ ُمدَرِّسًا للغةِ العربيَّةِ والعبريَّة في المدرسةِ الثانويَّةِ الشَّاملة – المغار ، وخرجَ قبلَ فترةٍ قصيرةٍ للتقاعد . يكتبُ كمال إبراهيم الشِّعرَ على مختلفِ أنواعِهِ : ( الشعر العمودي الكلاسيكي وشعر التفعيلة والشِّعر الحُرّ الحديث ) … ويكتبُ أيضًا المقالات والدراسات الأدبيَّة والنقديَّة ، ولهُ عدَّة ُ قصائد قد ألقيَتْ في مؤتمر ٍ دوليٍّ للشعر ِ في جامعة كليفورنيا عام 1982 وترجمت للإنجليزيَّة آنذاك . وكما نشرَ العديدَ من قصائدِهِ في صحفِ ومجلاتٍ محليَّة وأجنبيَّة ( خارج البلاد ) .
وأمَّا هذا الديوان الذي بين أيدينا فهو أوَّلُ ديوان ٍ يطبعُهُ الشَّاعر وهو ، بدورهِ ، يهتمُّ للنوعيَّةِ وللجودَةِ وللإبداع ِ وليس للكمِّ … وقد ُطبعَ هذا الديوان على نفقتِهِ الخاصَّةِ ولم يَلقَ أيَّ دعم ٍ مادِّيٍّ .. وبعدَ هذا الديوان أصدَرَ عدَّة َ دواوين شعريَّة وما زالَ لديهِ الكثيرُ من الإنتاج الأدبي والشعري المتراكم ولم يرَ النورَ بعد والذي يَفي لِطباعةِ عشرات الكتب والدواوين الشعريَّة .
سأركِّزُ في ، هذه المقالةِ ، الأضواءَ على بعض ِ القصائد ليَتسَنَّى للقارءِ من خلالِها أخذ ُ فكرةٍ واسعةٍ ، نوعًا ما ، عن الشَّاعر ومفاهيمِهِ وآرائِهِ وثقافتِهِ ونمط ِ ومستوى كتاباتِهِ ومواضيعها وأهدافها وتموُّجاتِها والقيمة الجماليَّة والفنيَّة التي تتحلَّى بها . وإذا نظرنا من الناحيةِ الشَّكليَّة والبناءِ الخارجي للقصائدِِ فهذا الديوان يضمُّ ويحوي قصائدَ التفعيلة والعموديَّة والقصائد الحديثة الحُرَّة . وأمَّا مواضيع هذا الديوان فتتمحورُ في عدَّةِ مجالاتٍ واتجاهات ، مثل : الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والفلسفيَّة والغزليَّة والوجدانيَّة والوطنيَّة … وبشكل ٍ خاص ومُميَّز في موضوع السلام .
سأستهلُّ البحثَ بقصيدةٍ من هذا الديوان بعنوان : ( ” كفى للحرب السادسة ” – صفحة 3 ) وهي على بحر المتدارك أو الخَبَب ُنشِرَت في جريدة ” الاتحاد ” قبل عدَّة سنوات ( اثناء الحرب الأخيرة عام 2006 ) ، يستعملُ الشَّاعرُ فيها عدَّة َ قواف ، والقصيدة ُ تفعيليَّة قريبة نوعًا ما إلى النمط العمودي في بعض ِ مقاطعِها – يقول فيها :
( “هذي الحربُ المَلعُونهْ // التقصف فيها طائرة ٌ // في الأحياء المَسكُونةْ //
أو تسقط ُ فيها كاتيوشا // تقتلُ بنتا ً محضونة //
هذي الحربُ المُزريَة ُ // سَاسَتُها لا يرحمُونْ //
فذاكَ الطفلُ المَدفونْ // يصرخُ في قبرهِ : // أينَ تسيرونْ ؟ //
أيُّهَا العسكريُّونْ ! //
وأنتُمْ أيُّها ” المقاتلونْ ” كما تقولونْ // ماذا تريدون ْ ؟ //
قتلُ امرأةٍ أو شيخ ٍ أو طفل ٍ // في بيتٍ مسكونْ ؟ //
كفى يا جنرالات الحرب تباهيًا // بانتصاراتٍ مشبُوهْ //
ويا عربُ كفاكم تحريضًا // لحربٍ باتت معروفهْ //
ويقولُ في نهايتها ( متحرِّرًا نوعا ما وخارجًا عن قيد الوزن بحذافيرهِ ) :
( ” الحكمة ُالمجهولة ُاليوم يا عسكريُّون // أن تدركوا أنَّ الحربَ دمار //
واللهُ لا يرحمُ المُعتدينْ // فلتصمتِ المَدافع ْ // كما تقولُ المراجِعْ //
ولتسكتِ القاذفاتُ والرَّاجماتْ // ولتهبط ِ الطائراتْ //
كي نحيَا بأمانْ // جميعًا // في هذا الزَّمانْ // )) .
القصيدة ُ بشكل ٍ عام معانيها واضحة ٌ ومفهومة ٌ وتلقائيَّة بدون ِ تكلُّفٍ وجُهدٍ كما يبدُو ، وهي تعكسُ حالة َ الشَّاعر النفسيَّة والذاتيَّة ورأيَهُ وموقفهُ من هذه الحرب ( الحرب الأخيرة في شهري 6 و 7 سنة 2006 ) وما سبَّبتهُ من رُعبٍ ودمار ٍوخسائر في الأملاك والأرواح … وانعكاساتها النفسيَّة على المَدى الواسع على جميع الناس . واختارَ الشَّاعرُ ، هنا ، بحرَ المتدارك لسهولتِهِ وانسيابِهِ وملائمتهِ لمثل ِ هذه المواضيع ، وخاصَّة ً في إطار شعر التفعيلة .
وشاعرنا ( كمال إبراهيم ) ، بدورهِ ، يلوم ُالجنرالات ورجال الجيش والمسؤولين عن هذه الحربِ المُدمِّرةِ التي لم ترحم طفلا ً أو شيخا أو امرأة ً أو بيتا ً ، فيطلبُ من المدافع والقاذفات والرَّاجمات أن تصمتَ وتكفَّ عن قذفِ الحِمَم ِ ونيران الموت … والطائرات أن تهبط َ ولا ُتحلِّقَ إطلاقا كي يَحْيَا الجميعُ بأمان ٍ وسلام ٍ في هذا الزمان ِ – عصر الحضارة والتكنلوجيا المتطوِّرة .
القصيدة ُ من الناحية ِ الجماليَّةِ والموضوعيَّةِ والذوقيَّةِ وفي كيفيَّةِ البناءِ والقيمةِ الفنيَّةِ والإنسانيَّة والأدبيَّة مستواها لا بأسَ بهِ وكلماتها ومفرداتها مُعبِّرة بصدق ٍعن أجواءِ الحرب وانعكاساتِها السلبيَّة ، وهي ُتحرِّكُ القارءَ وضميرَ كلِّ أنسان ٍ مُرهفِ الحِسِّ وبالذات الذي عاشَ وواكبَ أحداثَ هذهِ الحرب المشؤومة فتعيدُ القصيدة ُ إلى ذهنِهِ وخيالهِ الجوَّ والوضعَ الذي كانَ يحياهُ السّكانُ بشكل ٍ عام ( الأمني والنفسي والاقتصادي ) … إلخ .. أثناء فترة الحرب .
هنالكَ بعضُ التعابير والتشبيهات البلاغيَّة الجميلة في القصيدةِ كانت قد استعمِلت سابقا أو ما يُشابهها مثل : ( فلتصمت المدافع ) … وباختصار معاني القصيدة مألوفة ومُستهلكة ولا نجدُ فيها تجديدًا بلاغيًّا أو تشبيهًا وابتكارًا معنويًّا حسب مقاييس ومفاهيم النقد الأدبي الحديث . وفي بدايةِ القصيدةِ يذكرُ الشَّاعرُ أهوالَ الحرب ويستعملُ ( أل ) التعريف مكان كلمة ( الذي ) كاختصار لفظي للكلمة … وهذا الاستعمال اللغوي قليلون من الشعراء والأدباء الذين استعملوهُ – وهو معروفٌ منذ القدم . لقد قالَ : ” هذه الحربُ المَلعُونة ُ ( ألتقصِفُ ) فيها طائرة ٌ بدلا ً من أن يقولَ : ( التي تقصفُ طائرة ٌ ) .
ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ( أمواج المِحَن – صفحة 8 – 9 ) يتحدَّثُ فيها الشَّاعرُ عن الظلم ِ والاستبدادِ والحاكمين من الطغاةِ وأذنابِهم وذلّ الشُّعوب واستعبادهم وكيف أنَّ الدكتاتوريِّين الطغاة على مرِّ العصور يظهرون بأسماءٍ وأشكال ٍ متعدِّدة وبأنماط ٍ وأساليب في الظلم والسَّطو ِ والبطش والقمع تختلفُ ظاهريًّا في شكلها عن غيرها وعمَّا قبلها ولكنَّ أهدافَهَا ومفادَها وفحواها واحدٌ ، والقصيدة ُ عميقة ٌ بمعانيها وأهدافها يُدخلُ فيها الشَّاعرُ بعضَ الرُّموز والتشبيهات المُبتكرة ، يقولُ فيها :
( ” كلبُ نيرون ما زالَ حيًّا // يتقمَّصْ // يزرعُ الذ ُّعرَ ويعوي //
ويرتادُ الصُّخورْ //
نيرونُ ماتَ وكلبُهُ المَسعورُ حيٌّ لم يمُتْ // ما زالَ ينبحْ //
يمرحُ في كل الأزقة // وينهشُ في عظم ِ أجداثِ القبورْ //
نيرونُ من أيِّ داهيةٍ وُلِدْتَ ؟ // أمومسًا كانتْ //
أمْ عانسًاٍ رضخَتْ لأشرس ِ أنواع ِ النسورْ //
نحنُ نعرفُ عنكَ الكثيرَ // نعرفُ أنكَ طاغية ٌ قديم //
أحرقتَ روما فوقَ أجسادِ الضَّحايا //
نعرفُ كيفَ أغرتكَ ببايا // وذاكَ ليسَ غريبًا //
فأسلافُ الطغاةِ من بعدِكَ //
يحرقونَ وجهَ الشَّمس ِ // عبرَ دفَّاتِ الزَّمَنْ … //
وَرُوَيدًا رُوَيدًا يدلهِمُّ وجهَ الأرض ِ// فوقَ أمواج ِ المِحَنْ … //
رُوَيدًا رُوَيدًا يسبحُ الإنسانُ في بحر ِ الغضَبْ //
ترتخي يداهُ فيغرقُ بينَ قضبان ِ القصَبْ … //
يا صديقي … لا تسلني من أينَ هذا الصَّوتُ وكيفَ جاءْ //
فالشِّعرُ وليدُ هزَّاتِ الزَّمَنْ //
يرفعُ اليدَ اليُسرى // حينَ تضيقُ باليُمنى آياتُ الرَّجَاءْ !!! // “)) .
تحليلُ القصيدة : – يقصدُ الشَّاعرُ هنا بكلبِ نيرون كلَّ ظالم ٍ وكلَّ حاكم ٍ مُستبدٍّ مُتجَبِّر ٍ وأيضًا كلَّ َذنبٍ وعميل ٍ لأسيادِهِ الظالمين الطغاةِ المُتغطرسين … كلَّ ذنبٍ يقومُ بالمُومقاتِ وَيُؤَدِّي نفسَ عمل ِ سيِّدِهِ ( نيرون ) وينفذ أهدافَ ومآربَ أسيادِهِ الطغاةِ بحذافيرها . فالظلمُ والاستبدادُ ما زالَ موجودًا وَمُنتشِرًا في معظم ِ بقاع ِ الأرض ِ، فكلبُ نيرون ( كلب الحاكم الظالم والمُستعمر ) ما زالَ يحيَا يتقمَّصُ من دور ٍ لدور ٍ ومن جيل ٍ لجيل ٍ . صحيحٌ أنَّ القيصر نيرون طاغية ُ روما قد ماتَ ولكن لن ينتهي البطشُ والظلم والدكتاتوريَّة ، فالظلمُ ما زالَ مستمرًّا على كرتنا الأرضيَّة فكلبُ نيرونَ ما زالَ ينهشُ كلَّ شيءٍ حتى عظم أجداثِ القبور … ولا يكتفي بالأحياء – ( إنهُ لتشبيهٌ جميلٌ ) ، ويسألُ الشَّاعرُ الطاغية َ نيرون ويعني ويقصدُ بسؤالِهِ كلَّ طغاة العالم القدماء والجدُد ، فيقولُ : ( ” من أيِّ داهيةٍ وُلِدتَ أمُوِمِسًا كانتْ ” ) … أي أنهُ يُشكِّكُ في نقاءِ وطهارةِ أمَّهَاتِ الطغاةِ والظالمين والدكتاتوريِّين وكيفَ أنهنَّ أنجبنَ مثلَ هؤلاء غريبي الأطوار الذينَ جاءُوا كارثة ً ووَبَالا ً ودمارًا للإنسانيَّةِ والبشريَّةِ جمعاء وليسَ لشعوبِهِم فقط . ويقولُ الشَّاعرُ في القصيدةِ : إنَّ أسلافَ الطغاةِ ( كمَن جاءَ ومَن يجيءُ بعدهم بالتوالي ) على مختلفِ أسمائِهم وانتماءاتِهِم العرقيَّة وبيئتِهم الجغرافيَّة هم يحرقونَ … أو يُحاولونَ أن يحرقوا وجهَ الشَّمس عبرَ دَفاتِ الزَّمن … أي يريدونَ أن يحرقوا الحُرِّيَّة َ والعدالة َ ويُشَوِّهُوا الجمالَ ويقتلوا الحُبَّ ويشنقوا الوردَ ويحبسوا النورَ وينشروا الظلامَ والظلمَ والجهلَ وكلَّ ما هو سلبي وَمُدّمِّر … ولكن وبالتأكيد في نهايةِ المطافِ لا يبقى شيىءٌ كما هو فالأمورُ والأوضاعُ تتغيَّر بطبيعتِها وفي نهايةِ المطافِ سيصبحُ ويغدُو الإنسانُ أو بالأحرى الشَّعبُ المظلوم ككلّ مهما كانَ نوعهُ ووضعُهُ وإمكانيَّاتهُ وظروفهُ في بحر ٍ من الغضبِ وسيثورُ على ظالميهِ ويتحرَّرَ من قيودِ العبوديَّةِ والإستعمار والسِّجن ِ البغيض . وفي نهايةِ القصيدةِ ينتقلُ الشَّاعرُ إلى نفسهِ ويُخاطبُ صديقهُ ويقولُ لهُ : ( ” لا تسلنِي كيفَ هذا الصَّوتُ جاء – ( الصَّوت الثَّوري التقدُّمي الرَّافض جاء … أي صوت الشَّاعر وشعرهُ التحرُّري والإنساني) ، ويُجيبُهُ شاعرنا : بأنَّ الشِّعرَ التقدُّمي المُقاوم هُوَ وليدُ هَزَّاتِ الزَّمَن // يرفعُ اليدَ اليُسرى حينَ تضيقُ باليُمنى آياتُ الرَّجاء…
أيّ أنَّ الظروفَ والاوضاعَ هيَ التي تصقلُ المُناضلَ وتصقلُ الثَّورة َ وتشعلها فترتفعُ اليدُ اليُسْرَى أيضًا حينما اليَدُ اليُمنى لا تكفي لوحدِها لتحقيق آياتِ الرَّجاء والهدف المنشود . وكلمة ُ اليد اليُسرى هُنا لها معنًى وبُعدًا سياسيًّا وفكريًّا ، وربَّما يعني فيهِ شاعرُنا اليسارَ … وذلكَ حينما يجدُ الجميعُ ( الذينَ تحتَ نير المُعاناة والقهر) أنَّ اليدَ اليُمنى أو (اليمين ) لا يفعلُ شيئا ً إطلاقا ً ولا يتوقَّعُ منهُ أيّ رجاء .
إنَّ هذهِ القصيدة بشكل ٍ عام رائعة ٌ ومستواها عال ٍ جدًّا فتعيدُ إلى أذهانِنا روائعَ بعض ِ الشُّعراءِ العرب الكبار المُبدعين المُجَدّدين الذينَ كتبوا بأسلوبٍ ونمط ٍ وَتوَجُّهٍ قريبٍ نوعًا ما إلى نمط ِ وجوِّ هذهِ القصيدة ، أمثال : ( البياتي ، السَّيَّاب ، بلند الحيدري ، سليمان العيسى وغيرهم ) … إلخ . ولا ننسى أنَّ شاعرنا ( كمال إ براهيم ) لديهِ ثقافة ٌ واسعة ٌ جدًّا فهو دارسٌ وَمُطَّلعٌ على الأدبِ العربي والعبري والأجنبي بشكل ٍ واسع ٍ ولهُ الكثيرُ من الدراسات والأبحاث الأدبيَّة في هذا الصَّدد ، عدا موهبتهُ الشِّعريَّة الفطريَّة المُمّيَّزة . ونجدُ في هذه القصيدةِ الكثيرَ من الرُّموز والتوظيفاتِ والتشبيهاتِ المُوفقة والناجحةِ ، والقصيدة ُ كلماتها والفاظها جميلة ٌ ولغتها قويَّة ٌ وأهدافها سامية . وشاعرنا قبل كلِّ شيءٍ هو فنانٌ بالكلماتِ وإنسانٌ مُرهفُ الحِسِّ شفافٌ صادقٌ في مشاعرهِ ومُستقيمٌ في سلوكِهِ وفي حياتِهِ الخاصَّة اليوميَّة … وكلُّ هذا ينعكسُ بشكل ٍ تلقائيٍّ في جميع ِ كتاباتِهِ وعلى شعرهِ بشكل ٍ خاص .
ولنأخذ قصيدة ً أخرى من الديوان بعنوان : (( لوحة ٌ ضائعة ٌ – صفحة 13 – 14 )) حيثُ يظهرُ فيها حبُّهُ الشَّديدُ لوطنِهِ وتعلُّقه بهِ ، كتبَ القصيدة َ عندما كانَ يدرسُ في جامعة ” لوس أنجلس ” ، يقولُ فيها :
( ” سافرتُ بعيدًا يا وَطني // أبحَثُ عن لوحةِ شعر ٍ رمزيَّهْ //
ضاعَتْ // مُذ ْ عَصَفتْ في صدرِك // يا وطني // الرِّيحُ الهَمَجيَّهْ //
سافرتُ بعيدًا // وَمَكثتُ طويلا ً //
في باريسَ وفي لندنْ // في مدريد وَوَاشنطنْ //
في مُدُن ٍ أخرى غربيَّهْ //
فطربتُ طربتُ كثيرًا // في ديسكوهاتٍ عاجيَّهْ //
طربتُ ورقصتُ كثيرًا //
لكني // مِن دون ِ سمائِكَ يا وطني // أشهدُ أنَّ لا مَعنىً للحُرِّيَّهْ //”) .
القصيدة ُ ُتعَبِّرُ عن حالةِ ونفسيَّةِ ولواعج ِ كلِّ شابٍّ مُتغرِّبٍ سافرَ لأجل العلم ِ أو العمل ولقمةِ العيش وتحقيق الأهدافِ والأحلام ِ والطموحاتِ فينتابُهُ الحنينُ والشوقُ الشَّديدُ القاتلُ لأرضِهِ ووطنهِ وأهلِهِ وناسِهِ وأصدِقائِهِ … وينهي شاعرنا القصيدة َ بجملة ٍ فلسفيَّةٍ وفحواها أنَّ من دون ِ سماءِ الوطن لا يوجدُ أيُّ معنى للحُرِّيَّةِ ، فالإنسانُ المبدئي والمُلتزم المُتغرِّب الذي فيهِ خيرٌ لأهلِهِ وبلدِهِ فمهما كانَ وضعُهُ الإقتصادي جيِّدًا في الخارج ولو مارَسَ واقترفَ كلَّ أنواع ِ الملذات والملاهي فلا تلهيهِ جميعها عن ذكر ِ بلادِهِ واهلِهِ ، بل سيشعرُ دائمًا بضيق ٍ والم ٍ وحزن ٍ دفين وسيشعرُ أنهُ مُقيَّدٌ وفي سجن ٍ رهيبٍ طوالَ فترةِ بقائِهِ في أرض ِ الغربةِ ( خارج البلاد ) … وهذا الشُّعورُ أحسستُ بهِ أنا شخصيًّا عندما سافرتُ لخارج ِ البلاد لفترةٍ ليست طويلة لأجل ِ العلم .
وأمَّا قصيدة : ( لحنٌ ضائِعٌ ) – صفحة 15 من الديوان ) فنجدُ فيها عنصرَ الإيمان والمَحبَّة ، ولكن يشوبُهَا طابعُ الحزن والألم … ربَّما كتبها شاعرنا في ظرفٍ خاصّ حزين وفي فترةِ يأس ٍ واكتئابٍ ، فهو يسألُ اللهَ ، من خلال القصيدة ، لماذا كلّ الآلام والمشاكل والمِحن ُتحدقُ بهِ وماذا هوَ جنى وعملَ حتى ينالَ هذا الجَزاءَ والعناءَ والألمَ . لقد ُكتِبَت القصيدة ُ وصِيغت على شكل ِ عتابٍ مُوجَّهٍ للخالق ، يقولُ فيها :
( ” ماذا جَنيتُ يا إلهي // كيّْ يضيعَ اللحنَ مِنِّي // في أوج ِ الغناءٍ ؟ //
كي أرَى الوادي يجفُّ // في عزِّ الشِّتاءٍ //
ماذا جَنيتُ // كي أرى الأشواكَ في نفس ِ الغريقْ //
كي أرى النسْيَانَ // في طفل ٍ يفيقْ //
ماذا جنيتُ // كي أرى الآهاتِ // في بلدِ المسيحْ ؟ !! // ” ) .. إلخ .
يستعملُ ويوظفُ الشَّاعرُ هنا بعضَ الرُّموز والمعاني من الطبيعةِ ليصلَ إلى الفكرةِ والهدفِ الذي يريدُهُ ، مثل كلمات : الوادي ، الشتاء ، الأشواك … وهذه القصيدة ُ تذكّرنا ببعض القصائد الرومانسيَّة الشفافة التي تنضحُ بالألم ِ والحُزن وبالبراءةِ والجمال للشَّاعر ِ التونسي الكبير ” أبو القاسم الشَّابي ” – أحد العمالقة المُبدعين والمُجَدِّدين في مسيرةِ الشِّعر العربي الحديث ( من شعراء مدرسة ” أبولو ” ) – التي كانَ قد نظمهَا في أوقاتٍ صعبةٍ وحالاتٍ أليمةٍ عاشها … وكانَ ” الشَّابي ” دائمًا يغني للحياةِ والأمل وللطبيعةِ وللجمال ِ والحُريَّةِ وللفجر ِ المنشود وللحبِّ رغم كلِّ المشاكل والهموم التي كانت تواجهُهُ ، وشاعرنا كمال إبراهيم يشابهُ الشَّابي في بعض النواحي حيثُ يمتازُ ويتحلَّى بالشَّفافيَّة والإحساسَ المُرهف
وبالبراءةِ وطيبةِ القلب وبالرُّومانسيَّةِ والخيال الواسع المُجَنَّح ِ الحالم ِ فأكثرَ مثلهُ ( الشَّابي ) في وصفِ الطبيعةِ ووظَّفَ الكثيرَ من رموزها وعناصرها في العديد من قصائدِهِ الرَّائعة – كما في هذهِ القصيدة التي نحنُ في صددِها .
ولِشاعرنا بعضُ القصائِد الغزليَّة في هذا الديوان ، منها قصيدة ٌ بعنوان : ” ملاك – صفحة 56 ” – يقولُ فيها :
( ” مُدِّي يديكِ إلى يدِي //
إنِّي شاعرٌ يهوَى الجَمَالٍ
لا تقولي كيفَ كنا وكيفَ صرنا //
فالحُبُّ إيمانٌ ليسَ فيهِ قيلٌ وقالْ // ” ) .
القصيدة ُ بريئة ٌ وشفافة ٌ ورومانسيَّة ٌ يُعطِينا فيها صورة ً مُثلى للحُبِّ العُذري الشَّريف … وقد يكونُ شاعرنا صادقا فيما كتبَهُ للفتاةِ التي تغزَّلَ بها . وهنالكَ قصيدة ٌ عموديَّة ٌ في هذا الديوان نظمَها الشَّاعرُ في رثاءِ المناضل المرحوم عطوفة ” سلطان باشا الأطرش ” – قائد الثورة العربيَّة السورَّية الكبرى ضدَّ الإحتلال الفرنسي . والقصيدة ُ تتحلَّى وتمتازُ بالجزالةِ وقوَّةِ اللغةِ وبالجمال اللفظي وبالنبرةِ الحَماسيَّةِ فتذكي الإباءَ وَعِزَّة َ النفس ِ وتعيدُ إلى أذهانِنا حماسيَّات وروائع المتنبِّي وأبي تمَّام وعنترة بن شدَّاد وتاريخ البطولات والأمجاد العربيَّة الغابرة والسُّؤدد والإباء العربي التليد وهي على وزن الطويل – ( صفحة 47 ) – يقولُ فيها :
( “دروزٌ هُمُ الثُّوَّارُ كم سُلَّ سيفُهُمُ عرفنا بهِمْ جودًا وصدقا ً وإيمانا
نراهُمْ بحربٍ خاضَها الغربُ طامِعًا هُوَاة َ الرَّدَى سَلْ يا فرنسيُّ ” حَورَانا ”
أمَا مزَّقَ الثُّوَّارُ جيشًا عَرَمرَمًا أمَا قابَلَ الحُكمُ الفرنسيُّ بُركانا
وَكمْ ثارَ طودٌ .. السُّوَيداءُ شَهمُهُ عزيزًا بأشبال ٍ فخورًا ” بسُلطانا
هُوَ الرَّائِدُ المَنشُودُ والمجدُ مَجْدُهُ حَليمٌ أجادَ الحَربَ يومًا فأجدَانا “) .
سأكتفي بهذا القدر من استعراض القصائد تفاديًا للإطالةِ .
خاتمة : إنَّ شاعرنا ” كمال براهيم ” هوَ بحقٍّ وحقيقةٍ من الشُّعراء الكبار المُبدعين المُميَّزين محليًّا دون مِراء … وهذا الديوان ( من خيرةِ الدواوين الشِّعريَّة المطبوعة محليًّا ( في الفترة الأخيرة ) ويستحقُّ دراسة ً واسعة ً وشاملة ً وليسَ استعراضًا مُختصرًا وسريعًا . نجدُ في شعر كمال ، من خلال هذا الديوان ، الشُّعورَ والحِسَّ الوطني والأممي والمحَبَّة َ لجميع ِ الناس والشُّعوب ، فكتاباتهُ فحواها ومفادُها لأجل ِالمحبَّةِ والتسامح والسَّلام ِ والرّقيِّ والإزدهار وللحريَّةِ في نهايةِ المطافِ ولسلام ِ وأمن الشُّعوب … بَيْدَ أننا نجدُ هنالكَ َتفاوُتا ً في مستوى قصائد الديوان ، وخاصَّة ً القصائد التي ُكتِبَت سابقا عندما كانَ الشَّاعرُ يدرسُ في بلاد الغربةِ حيثُ مستواها أعلى منَ القصائد التي كتبت مؤخَّرًا من النواحي الجماليَّة والفنيَّة والموضوعيَّة … ولكن جميع القصائد ( القديمة والجديدة ) على مستوى عال – فمبروك للشَّاعر والأديب والصحفي المُبدع وللإنسان الإنسان الأستاذ : كمال إبراهيم ” على هذا الديوان القيِّم والرَّاقي والمُمَيَّز ونتمنَّى أن نرى لهُ إصدارات كثيرة في الوقت القريب شعرًا وأدبًا ونقدًا .
———————–
( بقلم : حاتم جوعيه – المغار – الجليل )